أكثر من 5 عقود من التعاون في السياسة والاقتصاد والثقافة البحرين وإيطاليا.. شراكة استراتيجية متجددة ورؤية ممتدة نحو المستقبل

حسن الستري
منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مملكة البحرين والجمهورية الإيطالية عام 1972، نجح البلدان في بناء نموذج متماسك للشراكة السياسية والدبلوماسية، قائم على الاحترام المتبادل والتفاهم العميق وتعدد مسارات التعاون. وقد تطورت هذه العلاقة عبر محطات تاريخية بارزة، وزيارات رفيعة المستوى، واتفاقيات استراتيجية، جعلت من التعاون البحريني – الإيطالي أكثر شمولاً واتساعاً، ممتداً من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الثقافة إلى التكنولوجيا، ومن الحوار الديني إلى الملفات الإقليمية والدولية الكبرى.
إقامة العلاقات الدبلوماسية عام 1972 مثلت بداية مسار طويل من التعاون الثنائي. غير أن مرحلة مطلع الألفية الجديدة شكّلت نقطة انطلاق فعلية نحو توثيق الروابط، مع افتتاح السفارة الإيطالية في المنامة عام 2002، الأمر الذي أتاح منصة مباشرة للحوار السياسي والدبلوماسي وتعزيز التبادل الثقافي والتجاري.
وجاءت زيارة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة إلى إيطاليا عام 2008 لتكون نقطة تحول بارزة. ففي تلك الزيارة، التقى جلالته الرئيس جورجيو نابوليتانو ورئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني، إضافة إلى قداسة البابا بندكت السادس عشر. وفتحت هذه اللقاءات آفاقاً جديدة للتعاون، وأكدت على مكانة البحرين كجسر للتقريب بين الأديان والثقافات، في انسجام مع موقع إيطاليا باعتبارها مقراً للفاتيكان ووجهة دينية وثقافية عالمية.
الزيارة الملكية التاريخية وضعت الأساس لتعاون مؤسسي متصاعد. فقد تم توقيع عدد من الاتفاقيات الثنائية في المجالات الثقافية والصحية والتعليمية، بما أرسى قاعدة صلبة للشراكة المستقبلية.
ثم جاءت زيارة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة إلى إيطاليا في فبراير 2020 لتضيف زخماً جديداً. حيث شهدت تلك الزيارة افتتاح سفارة البحرين في روما، وتوقيع اتفاقيات في الثقافة والتعليم والخدمات الجوية والصحة، في وقت مثّل بداية مرحلة متقدمة من التمثيل الدبلوماسي والتعاون الاقتصادي.
كما تأسست في 2021 اللجنة البحرينية – الإيطالية المشتركة، التي أصبحت منصة رسمية لمتابعة المشاريع الثنائية وتعزيز التعاون القطاعي، في انعكاس لجدية الطرفين في تطوير العلاقات إلى مستويات أكثر شمولاً.
واحدة من أبرز نقاط الالتقاء بين البحرين وإيطاليا هي اهتمام البلدين بالحوار بين الأديان والثقافات. فقد أطلقت جامعة “سابينزا” في روما عام 2018 “كرسي الملك حمد للحوار بين الأديان”، ليجسد رؤية المملكة في دعم التسامح والتعايش السلمي.
وتعزز هذا المسار بزيارة البابا فرنسيس إلى البحرين عام 2022، والتي لاقت صدى واسعاً عالمياً، وأكدت موقع المملكة كأرض للحوار، بينما وجدت إيطاليا – باعتبارها تحتضن الفاتيكان – شريكاً طبيعياً في هذا التوجه. وهكذا تحولت العلاقات الدبلوماسية إلى جسر للتعاون الروحي والثقافي، بما يتجاوز الأطر التقليدية للعلاقات الدولية.
لم تقتصر العلاقات على الجانب السياسي، بل اتخذت بعداً اقتصادياً متنامياً. فقد شهدت السنوات الأخيرة نمواً ملحوظاً في التبادل التجاري، حيث أعلنت السفيرة الإيطالية في المنامة عام 2023 أن حجم التبادل بين البلدين ارتفع بنسبة 51% خلال عامين فقط.
هذا النمو يعكس تنوع مجالات التعاون، بدءاً من الطاقة المتجددة والبنية التحتية، مروراً بالصحة والتعليم، ووصولاً إلى التقنيات الحديثة والابتكار. كما وفرت إيطاليا تسهيلات ائتمانية سخية لدعم المشاريع في البحرين، في حين شكلت المملكة منصة حيوية للشركات الإيطالية الراغبة في النفاذ إلى أسواق الخليج العربي والمنطقة الأوسع.
على المستوى السياسي، تميزت العلاقات البحرينية – الإيطالية بتقارب ملحوظ في المواقف تجاه القضايا الإقليمية والدولية. فكلا البلدين يولي أهمية خاصة لدعم الاستقرار في الشرق الأوسط، ومكافحة الإرهاب، وتشجيع الحلول السلمية للنزاعات.
وقد عبّر السفير الإيطالي في المنامة أندريا كاتالانو عام 2024 عن تقدير بلاده للجهود البحرينية في تنظيم القمة العربية الـ33، واصفاً مبادرة جلالة الملك المعظم بالدعوة إلى مؤتمر دولي للسلام بأنها “علامة فارقة” في مسار العلاقات الدولية. وهو ما يعكس توافقاً متزايداً بين المنامة وروما بشأن الدور الفاعل للدبلوماسية في مواجهة التحديات العالمية.
شهد عام 2025 محطة مهمة مع زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إلى البحرين، حيث جرى توقيع اتفاق استراتيجي يمنح إيطاليا حق السيادة على بياناتها في مراكز الحوسبة السحابية البحرينية. ويعكس هذا الاتفاق انتقال العلاقات إلى مستوى جديد يرتبط بمستقبل الاقتصاد الرقمي والأمن السيبراني، ما يرسخ مكانة البحرين كمركز إقليمي في مجالات التكنولوجيا الحديثة.
ميلوني أكدت خلال الزيارة أن البحرين تمثل “نموذجاً رائداً لتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات”، مشيدة بدورها المتنامي على الساحتين العربية والدولية، في رسالة سياسية واضحة بأن العلاقات الثنائية باتت جزءاً من الاستراتيجية الإيطالية تجاه المنطقة.
في يوليو الماضي، التقى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم مع رئيسة الوزراء بالجمهورية الإيطالية جورجيا ميلوني، حيث أجرى جلالة الملك المعظم مباحثات مع رئيسة الوزراء الإيطالية تناولت العلاقات التاريخية الوثيقة، وسبل تعزيزها وتنميتها في المجالات كافة، بالإضافة إلى المستجدات والتطورات الإقليمية والدولية محل الاهتمام المشترك.
وخلال المباحثات، ناقش الجانبان الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، والجهود المشتركة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، كما هنأت رئيسة الوزراء الإيطالية جلالة الملك المعظم بمناسبة انتخاب مملكة البحرين عضواً غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للفترة 2026-2027.
التعاون الثقافي والأكاديمي بين البلدين لا يقل أهمية عن الجوانب السياسية والاقتصادية. فقد احتضنت الجامعات الإيطالية عدداً من الطلبة البحرينيين، فيما شاركت مؤسسات إيطالية في فعاليات ومعارض ثقافية بالبحرين. ويجري تبادل الخبرات بين الجانبين في مجالات التراث والفنون والتاريخ، بما يعزز الفهم المتبادل، ويقوي الروابط الشعبية إلى جانب العلاقات الرسمية.
احتفال البحرين وإيطاليا باليوبيل الذهبي للعلاقات عام 2022 لم يكن مجرد مناسبة بروتوكولية، بل محطة للتأكيد على عمق الروابط التي بنيت عبر خمسة عقود. فقد انتقلت هذه العلاقات من مرحلة التمثيل الدبلوماسي التقليدي إلى شراكة استراتيجية تشمل السياسة، الاقتصاد، الثقافة، الدين، والتكنولوجيا.
جلالة الملك المعظم أكد في أكثر من مناسبة أن البحرين حريصة على توثيق علاقاتها مع إيطاليا والارتقاء بها إلى آفاق أرحب. وفي المقابل، شددت القيادة الإيطالية على أن المملكة تمثل شريكاً موثوقاً، ومركزاً للحوار والتعاون الإقليمي والدولي.
إن العلاقات السياسية والدبلوماسية بين البحرين وإيطاليا تقدم اليوم نموذجاً للشراكة المتعددة الأبعاد. فهي ليست محصورة في اتفاقيات ثنائية أو زيارات متبادلة، بل تعكس رؤية استراتيجية تقوم على تعزيز الاستقرار والسلام والتنمية، والانفتاح على الحوار والتنوع الثقافي.
ومع الزخم المتزايد في السنوات الأخيرة، يبدو مستقبل هذه العلاقات واعداً بمزيد من التعاون العميق في مجالات السياسة، الاقتصاد، الرقمنة، والثقافة. خمسون عاماً مضت أثبتت أن العلاقات البحرينية – الإيطالية لا تزال قادرة على النمو والتجدد، بما يخدم مصلحة الشعبين الصديقين، ويعزز مكانتهما على الساحتين الإقليمية والدولية.