البرقيّة في حياة الملك عبدالعزيز

يُعَدَّ الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن الفيصل رحمه الله من عظماء التاريخ الذين أولوا جانب التطوير والتحديث جلّ اهتمامهم. فما إن دانت له البلاد حتى أخذ بكل ماهو جديد ومفيد لوطنه وشعبه، وعمل بجد واجتهاد وفكر مستنير على رقيّ بلاده والنهوض بها من حياة الجهل والتخلّف إلى آفاق واسعة من التقدم والرقي والازدهار، وحرص رحمه الله كل الحرص على الاستفادة من مختلف الوسائل الحديثة التي تقربه إلى شعبه، وتقرب شعبه إليه، وتساعده على استتباب الأمن، وتحقيق العدالة، ورفع كل مظلمة تقع على أي فرد من أفراد شعبه في أي مكان من أرجاء بلاده الشاسعة.
وفي مقدمة وسائل التحديث التي أخذ بها الملك عبدالعزيز رحمه الله ما عُرف باسم اللاسلكي (البرق أو البرقية). فما إن أدرك أهمية هذه الوسيلة حتى نهض بهمة وعزم للاستفادة منها إلى أبعد حدّ ممكن. وتغلّب على جميع الصعاب التي اعترضته، واستورد الآلات والأجهزة اللازمة لها، وافتتح المدارس المتخصصة في اللاسلكي لتخريج كوادر سعودية مدرّبة، وابتعث عدداً من أبناء الوطن إلى الخارج للتخصّص في مختلف فنونها. وعمل على تغطية البلاد بشبكة واسعة من المحطات اللاسلكية بين صغيرة وكبيرة، وأوسع لموظفي البرقية مكاناً بالقرب منه، ومنحهم كثيراً من عنايته واهتمامه، واصطحب البرقية معه في جميع تنقلاته وأسفاره، وما كان يبيت في حَضَر ولا سَفَر إلا والبرقية غير بعيدة عنه. وقد استخدم الملك عبد العزيز البرقية في أغراض سياسية ودبلوماسية، وإدارية جمّة، ومع ذلك، فهو لم يغفل الجوانب الاجتماعية والإنسانية فيما يبعثه من برقيات تمسّ هذا الشأن، فكان (رحمه الله) يتعهّد أسرته وبعض أفراد شعبه فيما يبعثه إليهم من برقيات ذات أغراض اجتماعية متعددة، وكان يصدر بعض الأوامر الإنسانية العاجلة من خلال البرقيات كذلك. وبلغ من استخدام الملك عبد العزيز للبرق أو البرقية أن جعلها وسيلة اتصال بينه وبين شعبه، يتلقى من خلالها شكاواهم، ويستمع إلى تظلماتهم باستمرار، وعمّم على سائر الإمارات والمراكز الحكومية وموظفي اللاسلكي لفتح باب البرقية لكل مشتكٍ من مواطنيه، وشدد في تعاميمه على عدم منع الناس من رفع شكاواهم إليه دون تعديل أو تحريف ضد كائن من كان من الأمراء والموظفين مهما علت مراتبهم، فكانت البرقية وسيلة من وسائل ترسيخ الأمن، وتحقيق العدل والإنصاف الذي اتصف به عهد الملك عبد العزيز طوال حياته، فقد ربطته البرقية رحمه الله بمختلف أنحاء بلاده المترامية الأطراف، وقربته كذلك إلى شعبه الذي كان حريصاً على التواصل معهم مباشرة عن طريق هذا المخترع العجيب، وكفلت البرقية له الأمن الذي هو دعامة من دعائم الاستقرار، وسياسة توطين البادية التي جعلها من أولى اهتماماته، كذلك ربطت البرقية أفراد المجتمع بعضهم ببعض، وأسهمت في ازدهار التجارة، وانتعاش الاقتصاد، وسهّلت على الناس وبصّرتهم بمعرفة الأهلّة، ومنها إعلامهم بدخول الشهر وخروجه في الصيام والإفطار، ومواعيد الأعياد والوقوف بعرفة، وخدمت الحجاج والزوار من الداخل والخارج في التواصل مع ذويهم في وقت لم يكن الاتصال فيه ميسوراً.
* أمين عام جمعية التاريخ
والآثار بدول مجلس التعاون الخليجي