«الوطن» تلم شمل أم بابنتها بعد فراق دام 36 عاماً

نيفين مدور ومروان الجميلي – تصوير: سهيل وزير
توقّف الزمن للحظات، الأنفاس تعثّرت، والقلوب خفقت كما لم تخفق من قبل، في مطار البحرين الدولي، وبين أصوات الرحلات وإعلانات الوصول، كانت هناك رحلة لا تُشبه أي رحلة.. رحلة «أم وُلدت من جديد»، و«ابنة عاشت على صورة وذكرى ورسالة مهترئة»، رحلة دام انتظارها منذ ما يقرب من 4 عقود، قبل أن تصل أخيراً من العراق إلى مملكة البحرين، لتُكتب نهاية لقصة من الفقد بطعم اللقاء الأبدي.نضال إسماعيل، الأم العراقية التي أفنت عمرها في الانتظار، وصلت البحرين، واستقبلتها ابنتها نهى عبدالمنعم بعد فراقٍ أبكاها وأنضجها.
صحيفة «الوطن»، التي تبنّت القصة منذ بداياتها، كانت في قلب الحدث، فريق الصحيفة، بقيادة الزميلة نيفين مدور، تواجد في المطار قبل وصول الرحلة المنشودة، لتوثيق اللحظة المرتقبة، لم تكن لحظةً صحفية عادية ولا «خبطة» صحفية كما يقال عنها في أوساط العاملين بـ«عالم صاحبة الجلالة»، بل لحظة تختلط فيها المهنة بالقلب، والحرف بالدموع، كنا جزءاً من انتظارٍ لا يشبه أي انتظار، وقفنا إلى جوار نهى، رأينا كيف تتردّد أنفاسها، كيف كانت تنظر إلى بوابة الوصول وكأنها تبحث بين الوجوه عن ملامح محفورة في ذاكرتها منذ كانت طفلة صغيرة.
الساعة اقتربت من السابعة مساء إلا قليلاً، والمشهد في صالة الوصول بمطار البحرين الدولي لم يكن كأي يوم، توتر ملحوظ حتى بين الحفيدات وبين المستقبلين، وجوه متأهبة، وعيون مترقبة لكن وسط الزحام، كانت هناك سيدة واحدة تقف وحدها، وقلبها ليس معها، بل مع الطائرة القادمة من بغداد.
نهى، التي وقفت في صالة المطار منذ وقتٍ مبكر، كانت ترتجف، لم تتحدث كثيراً، عيناها كانت تبحث في كل الاتجاهات، هاتفها بيد، وعربة ابنها الصغير في يدها الأخرى، وكأنها تقارن كل الوجوه بذاك الوجه الذي لم يفارق خيالها منذ الطفولة.
الانتظار كان ثقيلاً، يملؤه التوتر والرجاء، كل دقيقة تمر كأنها ساعة، كل إعلان رحلة يجعل قلبها يقفز. لكن حين أُعلن عن وصول الرحلة القادمة من بغداد، توقفت الكلمات.
الانتظار كان ثقيلاً يملؤه التوتر والرجاء
وبينما كنّا ننتظر، بدأ بعض الناس يلحظون الأمر، تجمّع عدد من المسافرين والمستقبلين، بعضهم بادر بالسؤال، وآخرون اكتفوا بالصمت والانتظار معنا، الحدث كان أكبر من الكلمات.. كانت اللحظة تحمل شيئاً من القداسة.وفجأة.. أُعلن عن وصول الرحلة القادمة من بغداد، ساد صمت لم نعهده في صالة الوصول، توقفت خطوات البعض، تسارعت دقات القلوب، ودموع كانت تلمع في أعيننا قبل أن نراها تسيل.
ثم.. خرجت نضال إسماعيل من البوابة، سيدة بغدادية تجاوزت السبعين أو يزيد، ملامحها تعب السنين، لكنها شامخة، تنظر حولها بعيونٍ تبحث عن جزء منها ضاع في الزمان، نهى لم تنتظر ثانية، ركضت نحوها، وكأن طفلتها التي بداخلها استيقظت فجأة، صرخت بكل ما في قلبها: «ماماااا!».
وفي ثوانٍ… التقت الروح بالروح، عناقٌ حبس أنفاس كل من في المكان حتى كاتب تلك السطور لم يسلم من تلك اللحظات الحزينة، انهارت نهى بالبكاء على صدر والدتها.
الجمهور في المطار لم يستطع حبس دموعه، عشرات الأشخاص وقفوا في حيرة وانبهار من المشهد العفوي، بعض المسافرين أخرجوا هواتفهم لتوثيق المشهد الفريد، وآخرون اكتفوا بالدعاء والبكاء بصمت، كان المطار في تلك اللحظة مسرحاً لقصة حب، لا تشبه أي قصة.
حفيدات نضال – بنات نهى – تقدّمن بعينين تملؤهما الدهشة، لأول مرة في حياتهن يعانقن جدّتهن، التي كانت مجرّد اسم وحكايات في ذاكرة أمهن.
فريق «الوطن» بقي إلى جانب العائلة يوثق كل لحظة، الزميلة نيفين مدور أجرت لقاءات مباشرة مع الأم وابنتها وسط الدموع، وسط مشهد لا تملك أمامه إلا أن تصمت احتراماً لعظمة اللحظة.
نيفين: صفي لنا مشاعرك الآن؟
– نهى: شعور؟ شعور لا يوصف، يعني أعجز عن التعبير، هذه مو بس لحظة.
نيفين: أول شي تقولينه لها؟
– نهى: بضمها بحضني، أول لمسة، أول لمة.
نيفين: من معك اليوم؟
– نهى: بناتي.
نيفين للبنات: من بتشوفون؟
– البنات: جدّتنا!
نيفين: شكثر مستانسين؟
– البنات: وايد!
نيفين: ماذا ستقولون لها؟
– البنات: بنحضنها.
– إحدى البنات: مستانسين إن أمي لقت أمها، وأخيراً بنشوفها وتعيش ويانا.
نيفين: أخبرينا عن القصة من البداية؟
– نهى: انولدت في العراق سنة 1987، وبعد حرب 1990، أمي ذهبت للأردن، وأبوي أخذني ورحنا مصر، أمي أرسلت رسالة لاحقاً، وبعدها انقطعت الأخبار، كنت صغيرة، عمري 3 سنوات.
بحثت عنها بين العراق ومصر والأردن انطلاقاً من البحرين، بس عمري ما حسّيت إنها ماتت، الكل كان يقول لو عايشة كان حصلتيها، بس أنا كنت متأكدة أنها حية.
بداية البحث كانت من رسالة وجدتها عمتي، وبدأت أبحث بالفيسبوك. كنت أحسب التركمان بالعراق، لكن طلعوا بالأردن، صديقتي سوّت صفحة للبحث، وتواصلوا معانا ناس. الإعلام ساعدني، خصوصاً مروان الجميلي من صحيفة «الوطن»، حيث تبنت الصحيفة مشكورة قصتي حتى أوصلتها للإعلام العراقي، ونسقت مع قناة الفلوجة العراقية حيث أجرت معي لقاء تلفزيونياً، وبنفس اليوم تواصلت معاي إحدى النساء وقالت: «أنا أعرف أمك»، تواصلت معها، أوفعلاً وصلتني لأمي.
نيفين: هل تتذكرين أول كلمة قالتها؟
– نهى: قالت لي: «بقيت عمري حاسة فيج، بس أنا بجنج، بس أبي ألمج وأصيح وأسكت».
أما السيدة نضال، فكان كلامها خليطاً من شكر ودعاء لحظة إنسانية نادرة عاشتها السيدة البغدادية، التي لم تتوقف عن البحث عن ابنتها طيلة 36 عاماً، لتتكلل سنوات الانتظار الطويلة بلقاء عاطفي تجاوز كل التوقعات.في حديثها إلى نيفين، اختلطت مشاعر نضال بين الدموع والفرح والدعاء، وقالت: «أسأل، أسأل أي أحد يشوفه، أسأل الدكتور «الطبيب»، أسأل المريض، أسأل الأصدقاء، ما خليت أحد ما سألته، رجعت لعمّان أكثر من مرة، لكن لا شيء».
وعن السنوات التي مضت قالت نضال: «36 سنة، مرّت مريرة، مرّت عليّ مرور… الآن أمسك بيدها، تتوقعين أتركها؟ وكأنني في حلم، جسمي كله يرجف».
سألتها نيفين: هل توقعتِ أن يكون اللقاء بهذا الشكل؟
– فردت: «أقل من إللي بداخلي، في أكثر داخلي، لكن ما أبي أتعبها. حاولت أتمالك نفسي بس الضغط، الضغط كان قوي، مشيت قبل قلبي».
وفي نهاية اللقاء، وجهت نضال كلمات شكر مؤثرة: «أشكر الجميع، أشكر مروان، وأشكركم كلكم، الله يخليكم ويحفظكم، أشوفكم بكل الخير، ولا تشوفون شر بجاه النبي».
نعم، خير البحرين كان حاضراً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فبفضل التعاون والتسهيلات التي قدّمتها وزارة الداخلية البحرينية، ودعم إدارة مطار البحرين الدولي، سارت كل الإجراءات بسلاسة، واحتضنت المملكة هذا اللقاء الإنساني النادر، لترسم صورة جديدة من صور العطاء والرحمة والإنسانية التي لطالما كانت البحرين مثالاً حيّاً لها.
هذا اللقاء لم يكن مجرد لمّ شمل، بل كان عودة حياة إلى قلبين أنهكهما الانتظار، وبداية فصل جديد من الحب والدفء بعد عقود من الفقد.