من الشارع إلى المستشفى أو المقبرة

حنان الخلفان
في كل مرة يقود فيها أحدهم بعكس الاتجاه، تنقلب الحياة في لحظة، ما بين صوت الفرامل، وصرخة الفزع، وصدمة الحديد، تضيع حياة بريئة، فقط لأن آخر ظن أن الشارع لعبة… أو موضة تُتداول باسم الترند.
في السابق، كنا نخاف من ذلك السائق الذي يمسك بهاتفه ويقود منشغلاً، أما اليوم، فنخاف ممن يختار التهور عن سابق عَمد، ويظن أن القوانين مجرد اقتراحات، وأن الأرواح لا وزن لها.
القيادة عكس الاتجاه ليست «شطارة» ولا استعراضاً للذكاء، بل هي عبث متهور، واستهانة بالقانون، ولامبالاة بحياة الآخرين. هي قرار لحظي قد يكلّف أرواحاً لا ذنب لها سوى أنها سلكت الطريق الصحيح. والمفارقة أن بعضهم يوثق هذه المخالفات بفخر في مقاطع الفيديو، وكأنها بطولة تستحق التصفيق، لا جريمة تستوجب العقاب.
وحين تتدخل الدولة، كما فعل سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، بتوجيهات واضحة وصارمة لتشديد العقوبات وتحديث التشريعات، فإن الرسالة تصبح واضحة: لا تهاون مع من يستهين بالحياة، ولا مبرر لسلوك يخالف الفطرة قبل أن يخالف القانون. فالمجتمع المتحضر لا يقاس بعدد إشاراته المرورية، بل بمدى التزام أفراده بها.
ليست العقوبات وحدها ما نحتاجه، بل ثورة وعي تبدأ من البيت، ومن المدرسة، ومن كل منبر إعلامي وتربوي. نحتاج إلى خطاب صريح، لا يُجامل ولا يُداهن، يقول للشاب المتهور: ما تفعله ليس «مغامرة»، بل سلوك جبان يدفع ثمنه الأبرياء. نحتاج إلى ثقافة جديدة، ترى في احترام القانون شرفاً، وفي النظام قوة، وفي السلامة واجباً وطنياً لا ترفاً سلوكياً.
ولأن الردع أحياناً لا يتحقق إلا بالصورة الصادمة، فلا مانع من أن نستفيد من تجارب الدول المجاورة والعالمية. في بعض الدول، شاهدنا سيارات تُسحق أمام الناس في الساحات العامة، لترسيخ رسالة أن التهور لا يُكافأ. وفي دول أخرى يُسحب الترخيص ويُحتجز السائق المخالف لفترات طويلة. وفي البعض الأخر أصبحت المخالفات على استخدام الهاتف أو عدم ربط حزام الأمان تفرض غرامات مرتفعة، ما يعكس جدية الدولة في التعامل مع أبسط مسببات الحوادث. أما في دول آسيوية وغربية، فقد بلغ الردع حدّ الحرمان من القيادة وإلزام المخالف بإعادة التأهيل.
لكن القوانين وحدها لا تكفي، ما لم يُفعّل الوعي المجتمعي والرقابة الشعبية. فوجود خط ساخن أو تطبيق وطني للتبليغ عن السائقين المتهورين قد يكون أداة إنقاذ لا تقل أهمية عن العقوبة نفسها، كما أن للإعلام دوراً محورياً لا في تغذية الترند، بل في كسره، وتسليط الضوء على الأثر العميق لهذه التصرفات، من الشارع.. إلى كل بيت ومدرسة ومستقبل.
فحين يبدأ الشارع في التهام الحياة، يصبح من حق كل عائلة أن تخاف، ومن واجب كل مجتمع أن يتحرك. البحرين، التي قطعت أشواطاً في التقدم والتنمية، تستحق طرقاً آمنة، وسائقين مسؤولين، ومجتمعاً لا يبرر الخطأ بل يواجهه. ولعل أقسى ما في الحوادث أنها لا تمنحنا فرصة ثانية.. لكنها تمنحنا درساً. والسؤال الآن: هل نتعلّم قبل أن نخسر المزيد؟
الطرق ليست مجرد إسفلت وسيارات.. الطرق ذاكرة وطن، نحفظ عليها ضحكاتنا، وتُسجَّل عليها لحظاتنا الصعبة. وللأسف، في بعض الشوارع، تصبح هذه الذاكرة حزينة. لا أنسى حين كنت صغيرة، في أحد الأيام عند «ممشى عالي»، انقلبت بنا السيارة في منعطف حاد بعد أن انفجر الإطار الخلفي فجأة. كان الشارع حينها غير معدّل بالشكل الذي هو عليه اليوم، ومازلتُ حتى الآن، كلما مررت من هناك، أسترجع تلك اللحظة بتفاصيلها، بتلك الرهبة، بالصمت الذي سبق الصدمة. ذلك الشارع بالنسبة لي لم يعد مجرد طريق.. بل صار علامة.
وبصراحة.. لماذا نسمح أن تكون شوارعنا علامات على الألم؟ ولماذا نتركها تتلوّث بحماقات لا تُغتفر؟ فهل نترك ذاكرة الوطن تُلطخ بدماء الأبرياء؟ أم ننتصر للحياة، ونقف صفّاً واحداً في وجه من لا يرى في القانون سوى عائق.. وفي الأرواح سوى أرقام؟ دعونا لا ننتظر أن يأتي الدور على من نحب.. حينها فقط، قد يكون الصمت هو الجريمة الحقيقية. فاللهم احفظ أهلنا في طرقاتهم، وبلادنا من شر الحوادث، واجعل هذا العيد سلاماً على القلوب، وأماناً في الدروب.