مفاتيح اليقين | صحيفة الوطن

ثمة كلمات في القرآن لا تُقرأ بعين العقل وحده، بل تُستشعر بعمق الروح، فتتحول من مجرد أصوات إلى مفاتيح للطمأنينة وبوابات لليقين، كلمة «كذلك» ليست تركيبًا لغوياً عابراً، بل هي تجلٍّ رباني يبدّد الخوف، ويعيد تعريف الممكن والمستحيل.
حين وقف زكريا عليه السلام أمام حدود الجسد والسنّ، يناجي ربه وقد غلبه اليأس البشري، جاءه الجواب المزلزل للظنون: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، ثم الخاتمة التي لا تترك للقلق موطئاً: (كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ). لم تكن مجرد إجابة، بل إعلاناً بأن قوانين البشر تنحني عند عتبة القدرة الإلهية.
والمشهد ذاته يتكرر في قصة مريم عليها السلام، حين واجهت سؤالًا يختصر استحالة الواقع: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)، فجاءها الجواب نفسه: (كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ). وفي بيت إبراهيم عليه السلام، حين ضحكت زوجته استغراباً من بشارة لا تحتملها المقاييس، جاءها الصوت العلوي: (كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ).
تتنوع القصص، لكن الخيط الرابط بينها جميعاً أن المستحيل ليس إلا وهماً في عقول البشر، أما عند الله فهو وعد نافذ بغير قيد، «كذلك» إذن ليست كلمة فحسب، بل فلسفة وجودية عميقة؛ إنها إعلان عن سيادة الإرادة الإلهية على كل ما يظنه العقل حاجزاً، اليقين ليس يقين العيون التي ترى، بل يقين القلوب التي تُسلِّم. هو انتقال من ضوضاء التساؤل إلى صمت الاطمئنان، ومن وهم السيطرة إلى إدراك أن الأمر كله بيد الله.
اليقين لا يُبنى على معرفة كل التفاصيل، بل على الثقة في أن التفاصيل كلها تحت سلطان الواحد الأحد، إنها كلمة تختصر المسافة بين الحلم وتجسيده، بين الخوف والسكينة، بين عجز الإنسان وقدرة الله المطلقة، في لحظة «كذلك» يتبدد الهلع وتنهار جدران الشك، عندها يصبح اليقين ليس فكرة عقلية، بل تجربة قلبية، تتجاوز حدود المنطق لتلامس الأبدية، الفلسفة الحقيقية لليقين ليست في غياب الأسئلة، بل في التسليم بأن الأجوبة كلها عند من لا تحده حدود.
وهنا يتحول الإنسان من كائن قلق يبحث عن تفسير، إلى روح مطمئنة وجدت في «كذلك» جواباً مكتملاً يغنيها عن كل سؤال، إنها كلمة لو أدركها القلب حق الإدراك، لعلم أن الأقدار لا تُدار بما يرى، بل بما يشاء صاحب الملكوت، ولو تذوقها المؤمن مرة، لَسجد شاكراً مطمئناً، مستشعراً أن الأمر مقضي بقدر الله.
أميرة محمد البيطار