اخبار عربية ودولية

عبدالله الخان والتكنولوجيا.. حكاية بين عصرين



عثمان عادل العباسي

بينما أنا جالس في بيت الوالد حفظه الله، مستمتعاً بجلسة شرب الشاي وقت العصر، والهاتف بعيدٌ عن متناول يدي في هدنة مؤقتة من ضجيج الإشعارات الذكية التي لا تهدأ، ورغبةً في مقاومة إدمان الإنستغرام الذي يُصر دوماً على تحطيم أرقامي القياسية في إهدار الوقت؛ أخذتنا الأحاديث إلى صورة جوية قديمة معلّقة على الجدار، لبيت جدّي محمد الخان رحمه الله، الواقع في فريج البنعلي بالمحرّق، وقد التُقطت في منتصف عقد الثمانين من القرن الماضي. يظهر فيها حوش البيت الداخلي وبعض نخيله، وإلى جانبه حوطة نخيل كثيفة تبدو شامخةً وكأنها تحرس الذكريات. تمتدّ الصورة لتشمل الطرق الهادئة المحاذية وأجزاءً من بيوت الفريج، وتظهر في طرفها مدرسة عبدالرحمن الناصر.

لقطةٌ بديعةٌ وثّقتها عدسةُ الراوي الأمين، المصوّر البحريني الكبير عبدالله محمد الخان، الذي التقط لحظاتٍ لا تُنسى من تاريخ البحرين والمنطقة، واختزل الأزمنة في مشاهد حيّة.

وبينما أتأمل تفاصيل الصورة، وجدتُ نفسي أتخيّل كيف كانت الحياة بسيطةً وهادئةً إلى هذه الدرجة؛ شوارعُ المحرق الهادئة قبل زمنٍ ليس ببعيد، ناسٌ بسطاء، وجوهٌ لم تعرف السيلفي بعد، ولم تجرّب فلاتر «السناب» التي تجعل الواحد منّا أقرب إلى شخصية كرتونية لطيفة. كيف كان المصوّر آنذاك ينتظر أيامًا لتحميض أفلامه في غرفةٍ مظلمةٍ صغيرة، بينما نحن لا نطيق الانتظار نصف دقيقة لاستلام رسالةٍ صوتيةٍ من صديقٍ يُخبرنا أنه سيصل متأخراً كعادته.

حينها تبادرت إلى ذهني مجموعة تساؤلات ساخرة: كيف يا تُرى كانت الناس تتبادل أخبارها العاجلة دون «تغريدات» تويتر؟ وكيف كانت مجالس أهل البحرين تمتلئ وتزدحم بالأحاديث دون الحاجة لمجموعات «واتساب» التي تُرسل «صباح الخير» مع باقات ورودٍ افتراضية؟ والأهم من ذلك، من كان يُرشّح أفضل مطعمٍ للأسرة قبل أن تُسيطر تقييمات «الإنستغرام» التي صارت مصدراً للثقة أكثر من ذائقة خالاتنا وعمّاتنا؟

المفارقة اللطيفة في كل هذا أننا، رغم امتلاكنا كل هذه التقنيات والأجهزة، ما زلنا نشعر بأن شيئاً ما ناقص، تماماً كما يحدث عندما تخرج من البيت وتكتشف أنك نسيت هاتفك، لتبدأ بحالة من الذعر تشبه نسيان «المحفظة» أو مفتاح السيارة.

أصبحت هذه الأجهزة الصغيرة تتحكّم في مزاجنا وتُسيّر يومياتنا، بل وتوثّق تاريخنا الشخصي أيضاً. فلا مناسبة عائلية تمرّ إلا ولها نسخة احتياطية محفوظة في مكانٍ ما في السحابة الإلكترونية. قد تفنى البشرية، لكن صور «الانستغرام» ستبقى شاهداً أبدياً على اختياراتنا المتكررة من «فلات وايت» و«بانكيك» في المقاهي الجديدة.

أعودُ مبتسماً إلى مشاهد عبدالله الخان القديمة، وأتساءل: لو كانت هذه التقنية الحديثة بين يديه في ذلك الزمان، هل كان سيصوّر لقطاته بالأبيض والأسود؟ أم أنه سيختار نمط «HDR» لتفصيل وجوه الناس، أو فلتر «فالنسيا» و«كلارندون» لتبدو أزقة المحرّق أكثر دفئاً وحداثة؟

لكن بعيداً عن الخيال، تبقى فكرة مهمة تعلّمتها وأنا أتصفح إبداعات عبدالله الخان: ربما تكمن السعادة في العفوية، تلك التي تجعلنا نستخدم التقنية دون أن نتحوّل إلى أسرى لها، فكما عاش آباؤنا وأجدادنا حياةً غنية بالمشاعر والتواصل دون الحاجة لمساعد افتراضي، بإمكاننا نحن أيضاً أن نكتشف سحر العفوية، ونعيد لأنفسنا شيئاً من الهدوء وسط عالمٍ يتسارع فيه كل شيء.

وإلى أن نصل إلى هذه المرحلة من النضج التكنولوجي، سيظل هاتفك الذكي شاهداً على حيرتك بين جمال ماضيك الهادئ، ومُغريات حاضرك الذي لم يعُد يمنحك فرصةً لالتقاط الأنفاس.

* خبير تقني



Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى