زوجان يفترقان على ضوء الشاشة

في مشهد من المشاهد اليومية المعاصرة، يجلس خالد وسارة على أريكة واحدة، كل منهما غارق في هاتفه، يتصفح مبتسماً وسائل التواصل الاجتماعي، مستمتعاً بعملية التمرير (scrolling). صمت ثقيل يملأ الأجواء، حوار مقطوع، و«جدار زجاجي» غير مرئي يزداد سمكًا مع مرور الوقت. ما لا يدركانه هو أن هذا الصمت -المغلف بالابتسامة- قد يكون المقدمة الهادئة لنهاية صاخبة. فالهواتف الذكية، رغم مظهرها البريء، قد تحمل في باطنها بذور تآكل الروابط الزوجية.
يبدأ الانفصال هنا بخطوات خفية: تراجع لغة الجسد، ضمور النظرات الحانية، واختفاء الإحساس بالرفقة، وكلها -كما تشير أبحاث «جون جوتمان» في علم نفس العلاقات- أساسية لبناء الحميمية العاطفية.
عندما ينشغل الشريكان بشاشاتهما، يتحول الحضور الحقيقي إلى غياب وجداني، وتصبح الحياة الزوجية مسارين متوازيين لا يلتقيان. ومع مرور الوقت، يشعر كل طرف بالوحدة رغم وجود الآخر، فتتسع الهوة العاطفية يومًا بعد يوم، حتى في الزيجات التي تبدو مستقرة ظاهريًا.لكن المسألة لا تقف عند حدود الغياب العاطفي، فالاستخدام المفرط للشاشات يفعّل في الدماغ دوائر المكافأة، بإفراز مادة الدوبامين مع كل إشعار أو رسالة جديدة، كما بينت أبحاث علم الأعصاب السلوكي (كإحدى دراسات جامعة هارفارد 2019). ومع الاعتياد، يبحث الدماغ عن جرعات أكبر من هذا التحفيز، مما قد يدفع أحد الطرفين إلى استهلاك محتوى أكثر خطورة، كالمحتوى غير الأخلاقي.
وهنا تبدأ سلسلة من التداعيات المؤذية: صور خيالية عن الحب، توقعات غير واقعية عن العلاقة بين الزوجين، فقدان الاهتمام بالشريك الحقيقي، وشعور الطرف الآخر بعدم الكفاية، بما يضرب جذور الثقة بالنفس والاحترام المتبادل.
النتيجة النهائية لكل هذا ليست مجرد جفاء، بل ضياع إحدى ركائز العلاقة الإنسانية، وهي «المعنى المشترك»؛ ذلك الهدف أو الحلم أو التجربة التي يتشاركها الزوجان وتربط بينهما، ابتداءً من المشاريع الصغيرة حتى الرؤى الكبرى للحياة، المفهوم الذي يشرحه «فيكتور فرانكل» في العلاج بالمعنى يؤكد أن فقدان هذا الرباط المشترك يحوّل العلاقة إلى قشرة خاوية، مهما كانت واجهتها براقة.
إن الشاشة، إذا لم نروّضها، قد تتحول إلى بوابة لفقدان أعز ما بيننا: دفء المودة والرحمة، وصدق العين، لحظاتنا الأثمن ليست تلك التي نحصدها في العالم الافتراضي، بل تلك التي نحياها وجهاً لوجه، أطفئوا شاشاتكم، وارفعوا رؤوسكم، وانظروا في عيون أحبتكم قبل أن يذوب الحب في ضوءٍ أزرق بارد.
ويبقى هناك سؤال مفتوح للتأمل للسادة الأزواج والزوجات.. هل إدمان مطالعة الشاشات هو تحدٍّ عابر فرضه الواقع والتطور في وسائل التواصل، أم هو نداء عاجل للبحث عن المفقود في علاقاتنا؟
* استشاري زواجي وأسري