اخبار عربية ودولية

المدرسة الدينية بالمحرق وحكاية أكثر من 100 عام.. مبنى حاضر وذاكرة غائبة



عبداللطيف نبيل الصحاف

في فريج بن خاطر في قلب المحرق، وعلى زاوية زقاق ضيق تتسارع حوله خطوات التجديد، يقف مبنى قديم تمتد عروقه إلى أزمنة بعيدة، يمر به العابرون كأنما هو ظل باهت، جدار صامت يبتلع صدى الخطوات في الطريق.

ومثل العابرين.. مررت من هناك ولكن استوقفتني لحظة تأمل، أعزوها لكوني ابن هذا الحي… فتوقفت أمامه كأن الزمن أمسك بيدي لأرى ذاكرة تتسرب من بين الأصابع كالماء.. ذاكرة حاضرة في القلوب، غائبة عن العيان.

قديماً، بين أركان هذا المبنى، كانت هنا مدرسة أسسها الشيخ محمد بن حسن آل خاطر، عرفت باسم المدرسة الدينية. هذه المدرسة تعج بالكتب الدينية ومجالس التحفيظ، تشكل جزءاً من نبض المحرق.. جزءاً من حكاياتها ومعالمها. واليوم، يقف المبنى متكئاً على أنفاسه، حائراً بين البقاء والاندثار، وحيداً كشيخ مهجور.

تتآكل حكاياته بصمت، وتبهت ذكرياته مع كل يوم جديد. هذه الجدران ما زالت تتهجى أسماء رجال مروا بها.. طلاباً وعلماء ومشايخ عاشوا بين أركانها، فمن العلماء والمشايخ الذين قاموا بالتدريس قاضي المحرق الشيخ إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالمحسن الصحاف، والشيخ عبدالله بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالمحسن الصحاف، ومفتي المحرق الشيخ عيسى بن راشد بن عيسى بن خميس المالكي، والشيخ عبدالرحمن بن حسين بن جاسم الجودر، والسيد إبراهيم بن صالح بن محمد بن خليفة السادة، والسيد صالح بن إبراهيم بن صالح بن محمد بن خليفة السادة، والسيد أحمد بن إبراهيم بن صالح بن محمد بن خليفة السادة وغيرهم الكثير.

أما الطلاب الذين تلقوا التعليم فيها فمنهم الشيخ أحمد بن محمد بن حسن آل خاطر، والشيخ جاسم بن محمد بن حسن آل خاطر، والشيخ حسن بن محمد بن حسن آل خاطر، والشيخ يوسف بن محمد بن حسن آل خاطر، والشيخ عبدالله بن عجلان بن إبراهيم، وعبدالله الظاعن وراشد بن هندي وعبدالله بن ناصر ومحمد بن يعقوب الصحاف، وغيره من آل صحاف.

كتاب “أبا المساجد” صفحه 483 – 485.

أما أهل المنطقة فلهم شأن خاص بهذه المدرسة، فعلى مر السنين لم تغسل الأمطار ما خطته الذكريات على جدرانها، ولم تمح التحولات بعد تضاريس المكان وعبق الحنين الملتصق بروحه. ولكن القصص تذوب شيئاً فشيئاً وتنصهر في عمر الزمن.. هذه الأماكن حين تهمل ستبقى مجرد سرديات شفوية يرويها من عاشوا هنا، يرحلون وترحل معهم ذاكرة المكان. ليس فقط مبنى مهدد بالاندثار، ولا يحتاج لترميم ما اهترأ منه، بل يجب التعامل معه كهوية تقف على حافة النسيان، كمدرسة لها كيان ومعلم.

ومن بين شقوق الذاكرة، يطل وجه المكان بملامحه القديمة، تتهامس تفاصيله، يجرفك الشوق إلى كل ما هو أثير في النفس حين يشتد الحنين، فتغدو الأماكن مرآة للروح، ترى بعين القلب، تلوح صورتها من بعيد، خفيفة كرفرفة تحوم بين الروح وأعماق شرايين الذاكرة. وهناك من أرض مكة، ومن فيض الأشواق، سالت على الورق أبيات قصيدة، ”سلام على البحرين“ كان عنوانها:

وإني إلى أهل الـمحـرق تـائـق

وهل لي أن أنـسى مـجالسها الزهر

سـلام على أحـيـائـها و أخـصها

فريق البوعينين المنيف على البحر

يـقـوم بـه للــخاطريـيـن مـسـجـد

ومــدرسة تــعلى من الـعلم والـذكر

سلام على البحرين من ابنها

الذي بـمـكـة ثـاو لايـريـم مــدى الـدهــر

في الأبيات، ظل المكان حياً، نضراً، مشبعاً بالألفة، صوت حميم نابع من اختلاج في حنايا الروح يخاطب به الشاعر عبدالمحسن الصحاف الأركان ذاتها.. وجه المحرق الراسخ في وجدان نابض بالتوق، البحر والمسجد والفريج والمدرسة ذاتها، تستشف أن للمدرسة أثرا خالدا في نفوس كل من مروا بها.

تبحث عن هذه المدرسة في محركات البحث، فلا تجد سوى إشارات عابرة، وشذرات متناثرة، واجتهاد شخصي من قبل البعض بتصوير المبنى من الخارج وذكر بعض المعلومات – وهي خطوة يشكرون عليها – قد تجد بضع أسطر في صفحات كتب مرصوصة على رفوف الأرشيف، وإشارة في وثيقة مطموسة. ومن ضمن الوثائق المتعلقة بالمكان ورقة مذيلة بتوقيع وختم:

صحيح الأقل مقدمها

عبدالله بن إبراهيم الصحاف

تاريخ 11 رمضان 1346 “وثيقة عمرها قرن”

جزء من نصها “وقف على المدرسة التي بناها محمد بن حسن آل خاطر الذي في المحرق وأوقفهم على والدي وعلى من يقوم بالوظيفة من ذريته بعده”.

هذه المدرسة وقف أوقفه الشيخ محمد بن حسن آل خاطر، فارتبط اسمه بها وصار تاريخها يتنفس من خلاله.

وبين شواهد البحث ومصادره يبرز – بل لعله الأهم – كتاب ”أبا المساجد“، جمع وتحقيق خالد بن عبدالله بن يوسف آل خاطر، الصادر حديثاً عام 1447هـ / 2025م. وهو عمل توثيقي رائد يخلد محطات بارزة من الماضي، جامعاً بين الرواية والتأريخ، مقدماً نموذجاً في دقة المعلومة وتحري البحث وأمانة التوثيق، بمجهود علمي رفيع يستحق التقدير والإشادة، فكان بحق إضافة نوعية للمكتبة التاريخية.

وقد جاء ذكر المدرسة الدينية في هذا الكتاب، ونوه بأنها أول أوقاف الشيخ محمد بن حسن. كما أورد المؤلف أن الشيخ اشترى خمسة دكاكين في المنامة وأوقفها على المدرسة ليكون ريعها مخصصاً للمدرسة ولمن يتولى التدريس فيها، وكذلك لصيانتها إذا ما ضعف بناؤها.

“أبا المساجد” ص 71 – 73

امتد صمتٌ طويل يناهز الثلاثين عامًا

بين وثيقة مؤرخة في 1346هـ وأخرى لاحقة في 1376هـ، غابت المدرسة عن السجلات الرسمية، وغابت الأوراق في خريف الأرشيف. وربما تساقطت من غصن السجلات، وبقي الخريف عالقًا بينها لا يرحل.

تأخرت الفصول جميعها، تنتظر ومضة تؤذن بفصل جديد، ومتأخرة في الصفحات الأخيرة من الكتاب ذاته – أبا المساجد – لمعت ومضة خاطفة: محضر قصير يوصي الأئمة والمؤذنين في المحرق بالجلوس إلى فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن حسين الجودر في المدرسة الدينية.

كانت خفقة أخيرة لذلك القلب القديم. حفظتها دفاتر الزمن ردحًا من السنين، ثم وجدت حياة جديدة في كتاب، قبل أن تنساب من جديد في صمتها الطويل.

“أبا المساجد” ص 485

الكتب شواهد صامتة تنبض بحياة خفية، تحفظ أرواح من خطوها وبصمات أياد تقلبت في صفحاتها، حبر الماضي لازال يسري في عروق الكلمات، وبين ثناياها تستشعر أنفاساً كانت تلهث وراء المعرفة.

علماء ومشايخ وطلاب يجتمعون في حلقات تحت سقف مكتبة المدرسة الدينية. طال صمت المكتبة، ومالت الأرفف الخشبية، واتكأت الكتب على بعضها لتعاضد نفسها.

تسلل بعضها واستطاع الوصول إلى مكان آمن، محفوظة كمقتنيات تدب فيها الروح كلما نظرت إليها عين متأملة. وكلما لمحت هذا الكتاب القادم بغلاف تظهر عليه آثار الحروب، خاض المعارك وأتى متوشحاً بالغبار متماسكاً كدرع صافي مثقل بالندوب يحمي أوراق صفراء متآكلة كتب عليها:

“بسم الله الرحمن الرحيم

ليعلم الواقف على هذا الكتاب أنه دخل في حوزة الأقل محمد بن حسن بن خاطر وأني قد جعلته حبساً محبساً ووقفاً منجزاً مؤابداً لله ولمن ينتفع به من أهل العلم في مدرستنا المعلومة الكائنة في المحرق لا يخرج منها فكل [من] يتولى هذ المدرسة عني قراءة الفقه والحديث فيها يكون هذا الجزء المبارك تحت قبضته وإلى النظارة عليه وعلى المدرسة المذكورة ما دمت على توفيق الحياة ومن بعدي ذريتي الصالح منهم (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه والله سميع عليم)

حرر في 14 ربيع الثاني سنة 1296 هجري (ختمه)”.

تحمل نبرة الوصية التي يتردد صداها وحضورها يتجلى كلما أعيد فتح الكتاب وتأمل المشهد كاملاً. ولما كان لاقتناء الكتاب منزلة خاصة، خط بحبر الماضي في الزاوية اليسرى من الأعلى على أطراف صفحة كتاب آخر:

”دخل هذا – أي الكتاب – في ملك عبدالعزيز بن حسن آل يوسف، ثم انتقل إلى ملك الأقل عبدالله بن إبراهيم الصحاف.”

دخل هذا الكتاب ثم انتقل، الكتاب السابق ذكر المدرسة الدينية تحديداً ولكن هذا الكتاب لم يذكر المكان الذي خرج منه، ربما هو ينتمي لصومعة أخرى لا تبعد سوى خطوات بسيطة عن المدرسة التي تفصلهم مسافة قصيرة متعرجة، قلب ثان ينبض بالمعرفة. كانت – واستخدم هنا صيغة الماضي – مكتبة بيت الشيخ عبدالله الصحاف، أورثها الأب لابنه، فبقيت شاهدة على تواصل الأجيال، ظل ممتداً للمدرسة وامتداد أنفاسها، غرفة ساكنة يلفها صمت كثيف يضج بالمعنى، أذرع طويلة على هيئة أرفف تحتضن كتباً عتيقة ومخطوطات مطوية تحوي صخب القرون.

الأوراق ترتجف وتهمس بما لم يُسمع بعد، وكلما حاولت أن تصغي أكثر تهادى إلى روحك صدى أذان بعيد يتردد بأصوات مختلفة، يطوف على المنارات والقباب ويعبر الأزمنة ويصل بك إلى هنا بمسافة غير بعيدة هي الأخرى حيث يصدح أذان صلاة الجمعة في جامع الشيخ حمد، فتتسع دوائر صوت الأذان ببطء لتصل إلى الدكاكين المجاورة والمقاهي، تتهيأ النفوس وتفرش السجاجيد داخل المسجد وخارجه، ويصعد الشيخ عبدالله المنبر خطيباً وإماماً يمد صوته من المسجد إلى الفريج بصدى العلم والقرآن بصدى يتردد في المحرق.

خيوط من نور تمتد من المدرسة الدينية تتداخل مع ظلال المسجد فينعقد بين البيت والمكتبة نسيج واحد يشد أطراف الفريج ويرسم ملامحه كأن المكان يتنفس التاريخ دفعة واحدة، ويعيد بثه في حاضر متبق يركض في مسارات الذاكرة.

حينها.. كانت الكتب الوسيلة الأصدق لتناقل العلم والمعرفة، بها ارتوت العقول ومنها تشربت الأرواح. هذه الكتب ليست أوراقاً تتداعى، بل آثار حية من مكتبة المدرسة الدينية، تفوح من طياتها رائحة فريج بن خاطر، كأنما الأزقة ما زالت تسكن بين السطور وتبقى من أثمن المقتنيات التي يصونها الوالد حفظه الله.

بخطوات متأنية مر بالمدرسة كتاب “أبا المساجد“ مر باحثاً يفتش في الملفات، يجمع القصاصات، ويعيد ترتيب الخط الزمني لتاريخ كاد أن يمحى في زوايا بعيدة، إنه الشاهد الأخير، الوثيقة الحديثة التي احتضنت ما تبقى من الوثائق القديمة وانضمت لها، هو آخر من ذكر المدرسة حيث “حدد موقعها وخرائطها، أرضها وطريقها، مبناها ومواد بنائها، مجمعها، كل اتجاهاتها وما يحدها، شكلها وهيئتها غرفها، بابها ونوافذها، من أسسها وعلى من أوقفها، الدكاكين الموقوفة لها وريعها، وثائقها، مشايخها وعلمائها وطلابها، مكتبتها وكتبها، كم مرة صار ترميمها، صورها، متى توقف التدريس فيها، حضورها وغيابها وتغييبها، ميلادها ونشأتها وموتها“.

أو إلغائها وتحويلها لمنزل ودكاكين وتأجيرها!!

إنها مفارقة قاسية!! وتحولات أقسى حين يُساق المكان من ذاكرة حية نابضة إلى غياب أبدي!! ببطء تساقط المكان، ونزف ذكرياته، ومعه تلاشت روحه شيئاً فشيئاً..

تألم هذا المبنى كثيراً دون أن يصدر منه أي صوت. أو ربما كان له صوت وسمعوه لكن لم يكترث به أحد، ومن عليه أن يكترث؟! تكترث وتتألم عندما تكون أنت جذراً مغروساً في المكان ويتم اقتلاعك.أو ”بصيغة ألطف“ الإنتماء للمكان عندما يكون مغروساً ومتأصلاً في داخلك هو ما يجعلك تكترث.. وتتألم. كيف للغياب أن يطوي صفحة ثقيلة من التاريخ بكل زخمه وذكرياته وذاكرته.. كيف له أن يختزل كل هذا في هيئة إيجار شهري يحمل لافتة “تاريخ مؤجر“.

السؤال الذي يطرق الأبواب، كل الأبواب دون استثناء. هذا المبنى، هذا التاريخ، هل نتركه ينهار ويمحى من ذاكرة المدينة!! أم نعيد له الحياة ليظل شاهداً أن المحرق لم تُعلم القراءة فحسب، بل صنعت رجالاً، وأضاءت جيلاً بنور القرآن.

أعتقد أنه لو أُدرجت هذه المدرسة كمعلم تاريخي، ويعاد ترميمها وفتح أبوابها من جديد لتحفيظ القرآن وتدريس علوم الدين وفق شرط الواقف، مع توثيق تفاصيل تأسيسها ومن درس فيها من مشايخ وعلماء سيكون أمراً يشكل إضافة كبرى للمنطقة، وترسيخاً لهويتها وامتداداً لعراقة تاريخها. فمدرسة بن خاطر رمز من رموز المحرق لا يليق بها أن تغيب.



Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى