البِرُّ بالمفكرين.. د. الأنصاري مثالاً

مقال محمد بوعـيدة
تشرّفت بتلبية دعوة جامعة الخليج العربي لحضور الندوة الفكرية التي نظمتها الجامعة بالتعاون مع السفارة السعودية ودارة محمد جابر الأنصاري، احتفاء بإسهامات المفكر البحريني العربي الأستاذ الدكتور محمد جابر الأنصاري الفكرية والأكاديمية.
وفي زمن تتسارع فيه الخطى نحو المستقبل، وتُطوى فيه صفحات الفكر دون أن تُقرأ، يظل الوفاء للمفكرين الكبار ضرباً من النبل الإنساني، ووجهاً من وجوه البر الذي يسمو عن المألوف، ويعلو على العرفان العابر.
وفي مداخلتي التي كانت الأخيرة في الندوة، شكرت الأستاذة هالة الأنصاري مستشار جلالة الملك المعظم للشؤون الثقافية والعلمية على هذا البِر الذي تقدمه لذكرى وفكر الدكتور الأنصاري من خلال «الدارة»، لا لتكون مجرد متحف للذكريات، بل لتغدو فضاء حياً للفكر، ومنبراً للحوار، وجسراً بين الماضي والمستقبل.
وإذ نبارك هذه المبادرة النبيلة، فإنني أطمح إلى أن يمتد هذا البر ليأخذ أشكالاً مؤسسية أكثر رسوخاً، تحفظ فكر الأنصاري وتمنحه حياة جديدة في عقول الأجيال القادمة.
وبما أن الدكتور الأنصاري كان يشغل منصب أستاذ دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، وعميد كلية الدراسات العليا في جامعة الخليج العربي، فإنني هنا أكرر الاقتراح الذي قدمته في الندوة إلى الجامعة بإنشاء «كرسي محمد جابر الأنصاري للبحث العلمي»، يكون حاضناً للدراسات الفكرية والحضارية والسياسية، ومنصةً لتأملات الباحثين في قضايا النهضة، والتحول، والهوية.
كما أُعيد هنا اقتراح إطلاق الجامعة لـ«منحة محمد جابر الأنصاري للدراسات العليا» كخطوة أخرى في طريق الوفاء، تمنح الباحثين الشباب فرصة التعمق في الفكر العربي المعاصر، وتفتح أمامهم أبواباً لفهم الذات الحضارية، بعيداً عن ضجيج اللحظة.
ولكي لا يبقى فكر الأنصاري حبيس الكتب، فإن التعاون مع مركز «دراسات» لتحليل إنتاجه الفكري، وتفكيك أطروحاته، وإعادة قراءتها في ضوء التحولات الراهنة، سيكون بمثابة إحياء متجدّد لفكر لم ينطفئ، بل ينتظر من يوقظ جذوته.
ولا ننسى أيضاً دور مركز عيسى الثقافي الذي يمكن أن تتعاون معه «الدارة» في عرض الإنتاج الفكري للدكتور الأنصاري المقروء والمرئي، بالإضافة إلى إمكانية مناقشة هذا الفكر من خلال منتدى ثقافي خاص، والإعلان عن جائزة «عربية» باسم الأنصاري في العلوم الحضارية والسياسية وعلم الاجتماع.
كما اقترحت في مداخلتي على الأستاذة هالة تعاون «الدارة» مع معهد البحرين للتنمية السياسية، إذ من الممكن تخليد اسم الدكتور الأنصاري عبر إطلاق «دبلوم محمد جابر الأنصاري في العلوم السياسية»، ليكون برنامجاً أكاديمياً يعكس رؤيته في الإصلاح، ويستحضر منهجه في النقد، ويغرس في الدارسين روح التساؤل، لا الاكتفاء.
إن البر بالمفكرين ليس ترفاً، بل هو واجب حضاري، ومسؤولية أخلاقية، ووفاء للذاكرة الجمعية. والدكتور محمد جابر الأنصاري، بما تركه من أثر، يستحق أن يُكرّم لا بتمثال صامت، بل بمؤسسات ناطقة، تخلّد فكره، وتُحيي رسالته، وتُعلّم الأجيال أن الفكر لا يموت، ما دام هناك من يبرّ بأهله.
فليكن البر بالأنصاري بدايةً لثقافة جديدة، تُنصف المفكرين، وتمنحهم ما يستحقون من الخلود.